الخميس، 9 مارس 2023

 

الأحزاب ليست من الإسلام في الانتساب

شاءت حكمة الله وقضاؤه وقدره أن يذِلَّ من خالف أمره، وألا يمكَّن للإسلام إلا بما شرعه وارتضاه لعباده، لا بطريق اخترعوه، أو منهج غيره سلكوه.

وتراني أبدأ الحديث عن البلاء الذي أحاط بالأمة من الأحزاب، والجماعات وأشياعها، بكلمة بليغة من آثار فهم القرآن والسنة، لشيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله تعالى-

يقول فيها:(وكل ما خرج عن دعوة الإسلام والقرآن: من نسب، أو بلد، أو جنس، أو مذهب، أو طريقة: فهو من عزاء الجاهلية، بل لَمَّا اختصم رجلان من المهاجرين والأنصار، فقال المهاجري: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، وقال الأنصاري: يَا لَلْأَنْصَارِ، قال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: «أَبِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ» وغضب لذلك غضبًا شديدًا) (ابن تيمية، الفتاوى،28/ 328 ، والحديث أخرجه البخاري في «المناقب» باب ما يُنهى من دعوى الجاهلية (٢/ ٢٢٤) رقم (٣٥١٨)).

مع أنك تلاحظ أن كلمة المهاجرين والأنصار تسمية شرعية جاء بها القرآن والسنة، لكن لما تناديا على غير الحق، وكاد الأمر يتسبب في فرقة المسلمين سماها النبي -صلى الله عليه وسلم – دعوى جاهلية.

أقول : وكل الأحزاب، والجماعات، والتنظيمات التى تنتسب إلى الإسلام - هى من عزاء الجاهلية- وليست إسلامية لأن الإسلام ليس فيه أحزاب، وليس فيه جماعات.

 إنما هو:

1-حزب واحد

2- وجماعة واحدة

3- وتسمية واحدة،

4- ودعوة واحدة، .....

وما خالف ذلك

5- فرق مذمومة

 6- لن ينصر الإسلام بها حتى يعودوا إليه.

 وأعود من الإجمال إلى التفصيل:-

1-          أما الحزب الواحد قال تعالى : ( فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ .. سورة المائدة(56) وقال جل شأنه:( أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22))سورة المجادلة

 فجاءت كلمة حزب مفردة، محمودة لها الغلبة والفلاح، وما جمعت فى كتاب الله إلا مذمومة قال تعالى: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ ...هود :17)

وقال:(وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ..الرعد 36)

 وقال:(فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ.. مريم:37)

 وقال:(يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ ..الأحزاب :20)

وقال:(وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) سورة الأحزاب)

وقال:(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ ..سورة غافر الآية :5)

وقال:(فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) سورة الزخرف)

    وبالنظر فى الآيات السابقة تجد أن ( كلمة الأحزاب) ما ذكرت إلا في الكفر والإنكار والاختلاف ورمزًا للابتلاء والمصائب والتكذيب ..إلخ فلا تأتى بخير.

2-          وأما الجماعة الواحدة : فهي التي ذكرها النبي - صلى الله عليه وسلم- (.... فعليكم بالجماعة فإنما يأكل الذنب من الغنم القاصية) رواه أبو داود بإسناد حسن.

وهى جماعة المسلمين، السواد الأعظم، وليس الفرق والأحزاب التي تختط لنفسها شيئًا أشبه ما يكون بالدين الموازي لدين الإسلام ، وتجعل الموالاة والمعاداة عليها، والحب والبغض، والإيمان والكفر، والسنة والبدعة، بناءً على ما تراه تلك الجماعة أو الفرقة وأقطابها وكتاباتها والتي : تعطى وتمنع، وتخفض وترفع، وتقبل وترفض؛ بل تدخل من تشاء الجنة وتحكم على من تشاء بالنار. بل لا أراني مبالغًا إن قلت : ( هي كهنوتية جديدة - هي بابوية تكفر الخطايا وتعطى صكوك الغفران- هي كنائس لها أسرارها التي لا يفسرها إلا من تعمق في هذا الدين الجديد)!!  (دعوها فإنها منتنة)

3-          وأما التسمية الواحدة: فهي قوله تعالى:( هو سماكم المسلمين ..سورة الحج الآية: 78)

وأمر نبيه – صلى الله عليه وسلم- أن يصدع بها: ( وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ .. سورة الزمر (12)

وهى التى ارتضاها الله لعباده دينًا: ( وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا .. سورة المائدة الأية:3) وهى التى نطق بها الأنبياء جميعًا..والمقام يضيق عن سرد الآيات الدالة على ذلك وهى بلغت حدًا فى الشهرة.

وهى التى قال عنها النبي- صلى الله عليه وسلم -فيما أخرجه الطيالسي، وأحمد، والبخاري في تاريخه والترمذي وصححه، والنسائي، وأبو يعلى وغيرهم ..عن الحارث الأشعري، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جثاء جهنم . قال رجل : يا رسول الله، وإن صام وصلى؟ قال : نعم ، فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين والمؤمنين عباد الله . )

4-   وأما الدعوة الواحدة: فهي إلى الله، ولدلالة الخلق عليه، ووصلهم به، لا لحزب، ولا لجماعة، ولا لفرقة تحدث تمايزًا بين أبناء الدين الواحد.

 قال تعالى: ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ..سورة يوسف الاية: 108) وقال :(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ.. سورة فصلت الآية: 33) وقال:( يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ.....وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ..... الأحقاف الآية: 31و32) فكل دعوة لا تنطلق من هذا المنهج فهى ليست إلى الله، وإنما لهوى النفس، واتباعًا لسبيل الشيطان.

5-    فرق مذمومة:

ما لم يدخل فيما مر ذكره، فهو فيما آتِ بيانه.

ذم الله الفرقة ونهى عنها فى كتابه فى آيات ذوات عدد ، ومدح الوحدة وأمر بها وهنا تتجلى القاعدة التى تقول ( الأمر بالشئ نهى عن ضده والنهى عن الشئ أمر بضده).

 فالأمر بالوحدة نهى عن الفرقة، والنهى عن الفرقة، أمر بالوحدة

قال تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ..سورة آل عمران الآية:(105)

وقال: ( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ سورة الأنعام الآية(159).

قال تعالى:( وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ..الأنفال الآية(46).

 وقال جل شأنه: (وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) سورة الروم) فذم الفرقة والنزاع، وأمر بالوحدة والاجتماع قال تعالى ( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ..الأنبياء الآية (92)

 فبين الله تعالى أن الفرقة أساس كل شر، وسبب للعذاب العظيم، وأنها ليست من الإسلام، ولا مما جاء به النبي - عليه الصلاة والسلام- وأنها وسبب لذهاب القوة، وهى من سنن الكافرين

6- لن ينصر الإسلام بها ( أى الفرقة أو الحزبية) حتى يعودوا إليه. إن الله تعالى ناصرٌ دينه ، ومظهره على الدين كله، على يد أناس اختارهم لنصرته، واصطفاهم لعبادته، وأسبغ عليهم وصفًا واحدًا ..ضربة لازبٍ، أنهم عباد الله ، وجند الله لا ينسبون إلا إليه :( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) الصافات.

وقال عن الجيل الذي يستحق النصر الحقيقى (بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ .. الآية: 5 الإسراء)

وهم الذين قال عنهم النبي - صلى الله عليه وسلم- "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلا الغرقد") هذا لمسلم فى صحيحه وعند البخارى (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " تُقَاتِلُونَ اليَهُودَ، حَتَّى يَخْتَبِيَ أَحَدُهُمْ وَرَاءَ الحَجَرِ، فَيَقُولُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي، فَاقْتُلْهُ )

بلفظ عبدالله، فالذى عبّد نفسه لله فقط هو المنصور وهو الذى ينتصر الدين على يديه، فلن ينتصر الدين على هذه الرايات، والشعارات، والأحزاب، والفرق، حتى تُنَكَّس، وترفع رايةٌ واحدة، هي راية الإسلام الخالص لله رب العالمين، الذى يخلو من الأنا وحب الذات والتعلق بالدنيا ومناصبها الزائلة، والقتال من أجلها، ثم يُلتصق كل هذا باسم الإسلام، والإسلام منه براء .

 لابد أن تسقط كل هذه الدعاوى الزائفة، فالتاريخ لها فاضح ، وفى شهادته واضح ، أنه ما مُنِىَ الإسلام بشئ أفسد له من الفرق: وإن فى التاريخ لعبرًا:

من لم يعظه الدهر لم ينفعه ...ما راح به الواعظ يومًا أو غدا

من لم تفده عبرًا أيامه ...كان العمى أولى به من الهدى

الفقير إلى عفو الرحمن/ محمد حسني عمران

 

الأحد، 5 مارس 2023

                    تحويل القبلة ووسطية الأمة الإسلامية

الدكتور/محمد حسني عمران

    حادث تحويل القبلة من الأحداث العظيمة التي لها مكانتها في تاريخ الأمة الإسلامية، ومحاور الحديث عنها كثيرة، يصعب على الإنسان أن يجمعها في مقام واحد، وأغلب أحداث السيرة كذلك، (كلما ازددت فيها نظرًا زادتك فكرًا).

. فمعاني هذه الأحداث التي أثرت في الأمة الاسلامية لا تقف عند حد. لذا أقف مع الآيات التي تحدثت عن هذا الحدث العظيم. وأقف مع بعض الأمور منها كخطوط أستمد منها مضامين الكلمة. الله عز وجل عندما حدثنا عن هذا الحدث أهَّل نفوس الصحابة والنبي صلى الله عليه وسلم أن يتقبلوا قول القائلين فيه.

قال تعالى: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (البقرة: 142)

فجاء الجواب الإلهي. يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. والسفهاء جمع سفيه. والسفيه هو خفيف العقل والدين.

يقول الخازن: (ولما قال السفهاء ذلك رد الله تعالى عليهم بقوله: قُلْ يا محمد لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يعني أن له قطري المشرق والمغرب وما بينهما ملكا فلا يستحق شيء أن يكون لذاته قبلة لأن الجهات كلها شيء واحد، وإنما تصير قبلة لأن الله تعالى هو الذي جعلها قبلة فلا اعتراض عليه وهو قوله: يَهْدِي مَنْ يَشاءُ يعني من عباده إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يعني إلى جهة الكعبة وهي قبلة إبراهيم عليه السلام([1]).

 وكما قال المفسرون المقصود بالسفهاء هنا( هم المشركون) مشركو مكة. وقيل المنافقون وقيل اليهود وقيل جميع هؤلاء.

جميع هؤلاء هم الذين عابوا على أن يتحول النبي صلى الله عليه وسلم من بيت المقدس ببلاد الشام الى الكعبة في مكة فالله عز وجل أعلمه أن الكون كونه والعباد عباده وأن الأمر أمره.

والدروس المستفادة من ذلك كثيرة منها على سبيل المثال:

1-  بيان مكانة النبي – صلى الله عليه وسلم-

 فقد بين خلال هذا التحويل مكانة النبي صلى الله عليه وسلم وقدره عنده.

حيث استجاب له ربه بما كانت تهفو إليه نفسه، قال تعالى: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)

وجاء في الأحاديث ان النبي صلى الله عليه وسلم توجه الى ستة عشر شهرا وقيل سبعة عشر شهرا وقيل تسعة عشر شهرا وقيل بضعة عشر شهرا إلى بيت المقدس ثم جاء الأمر الإلهي أن يتحول إلى الكعبة في مكة المكرمة.

رَوَى الْأَئِمَّةُ وَاللَّفْظُ لِمَالِكٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: بَيْنَمَا النَّاسُ بِقُبَاءٍ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ فَاسْتَقْبِلُوهَا، وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّامِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ. وَخَرَّجَ الْبُخَارِيُّ عَنِ الْبَرَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ الْبَيْتِ، وَإِنَّهُ صَلَّى أَوَّلُ صَلَاةٍ صَلَّاهَا الْعَصْرَ، وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ وَهُمْ رَاكِعُونَ فَقَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ، لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ مَكَّةَ، فَدَارُوا كَمَا هُمْ قِبَلَ الْبَيْتِ. وَكَانَ الَّذِي مَاتَ عَلَى الْقِبْلَةِ قَبْلَ أَنْ تُحَوَّلَ قِبَلَ الْبَيْتِ رِجَالٌ قُتِلُوا لَمْ نَدْرِ مَا نَقُولُ فِيهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ"، فَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ صَلَاةُ الْعَصْرِ، وَفِي رِوَايَةِ مَالِكٍ صَلَاةُ الصُّبْحِ. وَقِيلَ: نَزَلَ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسْجِدِ بَنِي سَلِمَةَ وَهُوَ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ بَعْدَ رَكْعَتَيْنِ مِنْهَا فَتَحَوَّلَ في الصلاة، فسمي ذلك الْمَسْجِدُ مَسْجِدُ الْقِبْلَتَيْنِ([2]).

فالمسلمون استسلموا لأمر الله وشرعه، واليهود والمشركون والمنافقون جعلوا من هذا الأمر سخرية واستهزاء بشرع الله عز وجل واعتراضًا عليه، وطعنًا في نبيه صلى الله عليه وسلم.

2-  محنة واختبارًا

فكان الأمر محنة واختبارًا للتمييز بين الفريقين. يقول ابن القيم – رحمه الله تعالى-: وَكَانَ لِلَّهِ فِي جَعْلِ الْقِبْلَةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثُمَّ تَحْوِيلِهَا إِلَى الْكَعْبَةِ حِكَمٌ عَظِيمَةٌ، وَمِحْنَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ.

فَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَقَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَقَالُوا: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] وَهُمُ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ، وَلَمْ تَكُنْ كَبِيرَةً عَلَيْهِمْ.

وَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَقَالُوا: كَمَا رَجَعَ إِلَى قِبْلَتِنَا، يُوشِكُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى دِينِنَا، وَمَا رَجَعَ إِلَيْهَا إِلَّا أَنَّهُ الْحَقُّ.

وَأَمَّا اليهود فَقَالُوا: خَالَفَ قِبْلَةَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ، وَلَوْ كَانَ نَبِيًّا لَكَانَ يُصَلِّي إِلَى قِبْلَةِ الْأَنْبِيَاءِ.

وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ فَقَالُوا: مَا يَدْرِي مُحَمَّدٌ أَيْنَ يَتَوَجَّهُ، إِنْ كَانَتِ الْأُولَى حَقًّا فَقَدْ تَرَكَهَا، وَإِنْ كَانَتِ الثَّانِيَةُ هِيَ الْحَقَّ فَقَدْ كَانَ عَلَى بَاطِلٍ، وَكَثُرَتْ أَقَاوِيلُ السُّفَهَاءِ مِنَ النَّاسِ، وَكَانَتْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة: 143] وَكَانَتْ مِحْنَةً مِنَ اللَّهِ امْتَحَنَ بِهَا عِبَادَهُ لِيَرَى مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِنْهُمْ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ. ([3]).

3-وسطية الدين والمكان

فالله عز وجل ذكر خاصية  الوسطية للأمة الإسلامية،  في هذا الموقف العظيم -ولعل لهذا مقصد – وجعلها شارة لها، وسمة من سماتها، وميزة من مميزاتها، .

قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (البقرة:143)

 فربط خاصية الوسطية للأمة في هذا الحدث العظيم. حتى لا تزل الأمة عنها، ولا تتنكب الطريق.

 ولله در القائل:

لَا تَذْهَبَنَّ فِي الْأُمُورِ فَرَطًا ... لَا تَسْأَلَنَّ إِنْ سَأَلْتَ شَطَطَا

وَكُنْ مِنَ النَّاسِ جَمِيعًا وَسَطَا

. ولله در أبي الحسنين سيدنا علي -رضي الله عنه- حين قال:

نَحنُ نَؤُمُّ النَمَطَ الأَوسَطا *** لَسنا كَمَن قَصَّرَ أَو أَفرَطا.

والوسطية تعني: الاعتدال بين أمرين. عدم تجاوز المشروع أو التقصير عنه.

قال القرطبي:

وَوَسَطُ الْوَادِي: خَيْرُ مَوْضِعٍ فِيهِ وَأَكْثَرُهُ كَلَأً وَمَاءً. ولما كان الوسط مجانبا للغلق وَالتَّقْصِيرِ كَانَ مَحْمُودًا، أَيْ هَذِهِ الْأُمَّةُ لَمْ تُغْلِ غُلُوَّ النَّصَارَى فِي أَنْبِيَائِهِمْ، وَلَا قَصَّرُوا تَقْصِيرَ الْيَهُودِ فِي أَنْبِيَائِهِمْ. وَفِي الْحَدِيثِ: (خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا). وَفِيهِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:" عَلَيْكُمْ بِالنَّمَطِ الْأَوْسَطِ، فَإِلَيْهِ يَنْزِلُ الْعَالِي، وَإِلَيْهِ يَرْتَفِعُ النَّازِلَ" ([4]).

ويقول الإمام ابن كثير- رحمه الله تعالى:

وَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ وَسَطًا خَصَّها بِأَكْمَلِ الشَّرَائِعِ وَأَقْوَمِ الْمَنَاهِجِ وَأَوْضَحِ الْمَذَاهِبِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج: 78]([5])

والوسطية  سبيل الاسلام وهي منهج الأمة المعتمد.

فجاءت الأمة الإسلامية وسطا بين الأمم.

في اعتقادها وتشريعاتها. وتصوراتها وشعورها وتفكيرها وأخلاقها.

الوسطية في الاعتقاد

لم تغال في الأنبياء فتوصلهم درجة الألوهية كالنصارى. ولم تجافيهم كاليهود.

الوسطية في العبادات:

كانت الأمم المُتقدِّمة لا يصلون إلاَّ في كنائسهم وبِيَعِهم ([6])؛ كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله: (وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسَاجِدَ وَطَهُوراً، أَيْنَمَا أَدْرَكَتْنِي الصَّلاَةُ تَمَسَّحْتُ وَصَلَّيْتُ، وكَانَ مَنْ قَبْلِي يُعَظِّمُونَ ذَلِكَ، إنَّما كَانُوا يُصَلُّونَ فِي كَنَائِسِهِمْ وَبِيَعِهِمْ) ([7])

والوسطية في التشريعات:

قال القرطبي رحمه الله: (قال علماؤنا: كانت اليهود والمجوس تجتنب الحائض، وكانت النصارى يُجامعون الحُيَّض، فأمر اللهُ بالقصد بين هذين) ([8])

الوسطية في كل جوانب الحياة:

لم يكن عندنا مادية بحتة، ولا روحانية مفرطة.

راعت الجسد والروح

والفرد والجماعة

حق العبد وحق الرب

 فوازنت بين كل شيء فكانت وسطًا.

حفاظ الأزهر على الوسطية منهجًا وتبليغًا

 وهذا المنهج الذي يدعو إليه الأزهر الشريف الذي حمل مواريث الأمة رواية ودراية ورعاية.

رواية فالعلم فيه بالسند المتصل كابرًا عن كابر، وتواصلت سلسلة السند في العلوم حتى يوم الناس هذا.

ودراية فالفهم لما تحمله الرسالة

ورعاية: العمل بالعلم فهي الثمرة له.

فنسأل الله الإعانة على العمل بما نقول وألا نمتحن به.

فالأزهر الشريف الذي حمل هذه المواريث عمل على أن يحفظ للأمة منهجها الوسطي وليبلغه كما بلغه الأنبياء.

فلم يضيقوا على هذه الأمة لأنهم (أوتوا علومًا وفهومًا) وليسوا كأقوام أوتوا علومًا ولم يؤتوا فهومًا.

ولم يشددوا على الناس لأن رسالتهم (الحنيفية السمحة)

وهذا لسعة باعهم في العلوم، وحسن استنباطهم منها.

 يقول سيدنا سفيان الثوري: (إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة وأما التشديد فيحسنه كل أحد).

فكلما امتلأ الإنسان علمًا، كلما ازداد من الوسطية وقرب من الاعتدال، وبقدر نقصه من العلم، بقدر بعده من الوسطية وميله إلى التشديد والغلو المنهي عنه.

ولله در القائل:

إنما الضيق من ضيق الباع... في الفهم والاطلاع

فبلغوا رسالة الإسلام بما تحمله من قيم جمالية (الرحمة والسماحة واليسر والعدل والمصلحة)

  يقول ابن القيم – رحمه الله -:(فإن الشريعة مَبْنَاها وأساسَهَا على الحِكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عَدْلٌ كلُّها، ورحمةٌ كلها، ومصالحُ كلها، وحكمةٌ كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجَوْر، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة وإن أُدخلت فيها بالتأويل؛ فالشريعة عَدْل اللَّه بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- أتَمَّ دلالةٍ وأصدَقَها، وهي نوره الذي به أبصر المبصرون، وهُدَاه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقُه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل؛ فهي قرّة العيون، وحياة القلوب، ولذة الأرواح؛ فهي بها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة، وكل خيرٍ في الوجود فإنما هو مستفاد منها، وحاصل بها، وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها، ولولا رسومٌ قد بقيت لخَرِبَت الدنيا وطِوِيَ العالم، وهي العصمة للناس وقوام العالم، وبها يمسك اللَّه السموات والأرض أن تزولا"([9]).

فنحن نبلغ الناس: رسالة العدل

رسالة المصلحة

رسالة الرحمة

رسالة الحياة

رسالة الجمال



([1])  تفسير الخازن لباب التأويل في معاني التنزيل (1/ 87)

([2])  تفسير القرطبي (2/ 148)

([3])  زاد المعاد في هدي خير العباد (3/ 60)

([4])  تفسير القرطبي (2/ 154)

([5])  تفسير ابن كثير، (1/ 454)

([6])  شرح السنة، للبغوي (2/ 412)

([7])  رواه أحمد في (المسند)، (2/ 222)

([8])  تفسير القرطبي، (3/ 81).

([9])  إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم، (1/ 41)



 

 (تذكرة ودعوة)

من الدوافع والمحركات التي تدفع الإنسان إلى العمل-ولو تكاثرت الأعمال عليه- أن
يقارن بين حالتين (الإجهاد في العمل، و الفساد في الفراغ) ولن يخلو المرء من الحالتين.

ومن الحكم في هذا الباب: "عملٌ يجهد خيرٌ من فراغٍ يفسد"

فلو قارنت بين مشقتين أنت لا شك تحصَّل إحداهما، فمشقة الفراغ أشد وأكبر، وأبلغ خطرًا من مشقة تزاحم الأعمال عليك. 

لأن الفراغ مفسد وكما قيل: (العقل الفارغ هو ورشه عمل الشيطان!).

فكيف إذا كان الإجهاد في (باب العلم والتعليم) ورجاء الثواب من وراء ذلك، وتخليد الذكر، وتوريث العلم النافع.. إلخ. 

وقد كتب الإمام أبو محمد بن حزم -رحمه الله تعالى- عبارة تطرب لها النفوس، وتستمتع بها العقول حيث يقول: (لو لم يكن من فائدة الْعِلْم والاشتغال به إلا أنه يقطع المشتغل به عن الوساوس المضنية ومطارح الآمال التي لا تفيد غير الهم وكفاية الأفكار المؤلمة للنفس لكان ذلك أعظم داع إليه فكيف وله من الفضائل ما يطول ذكره!)الأخلاق والسير في مداواة النفوس، لابن حزم (ص: 63).

وبما أن طبيعة النفس البشرية أنها تفتر وتخلد إلى الراحة والدعة، فتحتاج إلى تذكير وتشجيع ونظر إلى العواقب.

وكما قال ابن الجوزي-رحمه الله - : (تَلمَّحْ فَجْرَ الأجرِ يَهُنْ ظلامُ التَّكليفِ) المدهش، (ص: 295)

وأما التذكير فذلك من باب (التواصي على الحق)، كما قال تعالى:{وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر}[العصر: 3]

ومن نفيس ما علق على هذه الآية، إمام الدعاة (الشيخ الشعراوي) رحمة الله عليه، بقوله: {وَتَوَاصَوْاْ} لا يعني أن قوما خُصوا بأنهم يُوصون غيرهم وقوما آخرين يُوصيهم غيرهُم، بل كل واحد منا موصٍ في وقت؛ وموصىً من غيره في وقت آخر، هذا هو معنى {وَتَوَاصَوْاْ}.

  فإذا رأيت في غيرك ضعفاً في أي ناحية من نواحي أحكام الله، فلك أن توصيه. وكذلك إن رأى غيرُك فيك ضعفا في أي ناحية من النواحي فله أن يوصيك، وعندما نتواصى جميعاً لا يبقى لمؤمن بيننا خطأ ظاهر..تفسير الشعراوي (2/ 1010)

 و لنستعن بالله عز وجل، ونردد دائمًا: (اللهم إني أعوذ بك من العجز، والكسل)

قال ابن القيم رحمه الله :"الإنسان مندوب إلى استعاذته بالله تعالى من العجز والكسل ، فالعجز عدم القدرة على الحيلة النافعة ، والكسل عدم الإرادة لفعلها ، فالعاجز لا يستطيع الحيلة ، والكـسلان لا يريدها" إعلام الموقعين، لابن القيم،(3/336) .

وعلى الإنسان أن يستحضر الثمرة، وأن ينظر في العاقبة، وأن يترك أثرًا حميدًا يذكر به ويكون له:(لسان صدق في الآخرين) 

وَكُن رَجُلاً إِن أَتَوا بَعدَهُ... يَقولونَ مَرَّ وَهَذا الأَثَر.

من هنا أدعوكم جميعًا لعمل دورة علمية في الموضوعات التالية :

1- تفكيك الفكر المتطرف الآليات وسبل المواجهة

2- معالم المنهج الأزهري في الإعداد والتكوين 

3- خريطة العلوم الإسلامية (الاتصال والانفصال)

4- المواسم الإسلامية بين حفاوة الاستقبال وحسن الاستثمار.

الحياة رحلة سفر، فليكن رحيلك بزاد تسر برؤيته: (يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ) (الإنشقاق:6)

ولله در القائل:

مسافرٌ أنت والآثارُ باقيةٌ ...فاترك وراءك ما تُحيي به أثرَك

الأربعاء، 31 مارس 2021

أزمة منهجية في الأبحاث العلمية!


أزمة منهجية في الأبحاث العلمية!


إن مَن يُطالع كثيرًا من الكتابات التي تنتسب إلى البحث العلمي، يجد أن الصلة بينها وبينه مبتورةٌ، وأن الاشتراك في المسمَّى من حيث هو كتاب دون أن يدلك المضمون على شيء من البحث الذي له قواعدُ وأصول يجب مراعاتها، اللهم إلا أن يدلك على نفسيَّة كاتبه التي بها كتب، أو مذهبِه الذي إليه ينتسب، دون أن يراعي أخلاقيات البحث، أو أمانتَه، أو قواعده.

 

وهذا لا يقلِّل من شأن البحث العلمي أو قيمته، على حد قول القائل: (إذا رأيت متدينًا يأتي شيئًا ليس من الدين الحق، فحذارِ أن تُحمِّل الدينَ جَريرةَ هذه النفوس؛ لأن المتديِّن إنما يتدين على طبيعته وخُلقه ومزاجه النفسي - ميراث الصمت والملكوت - عبدالعزيز الهدلق ص89).

 

وهكذا الأمر ينطبق على البحث العلمي، فإذا وجدت شخصًا يدَّعي البحث لنفسه ولم يَسر على قواعده، فلا يتحمَّل جريرةَ ذلك البحثُ العلمي وتهدر قيمته؛ وإنما يرجع الأمر إلى الداخل فيه مِن غير أهله، وكما قيل: (مَن ادعى ما ليس فيه، فضحَتْه شواهد الامتحان)؛ لأنه دخله بطبيعته وخُلقه ومزاجه النفسي!

 

وبالاطلاع والاستقراء ستجد كثيرًا ينطبق عليه الآتي:

1 - البعد عن الحيدة (الموضوعية) العلمية:

كثيرون - إلا مَن رحم الله وعصم - لا يلتزمون هذا الأمر، ولا يتخلَّون عن عاطفتهم أو نصرة مذهبهم، أو التأثر بالخلفية التي يدخلون بها الموضوع المراد بحثه، فتراه يُصدر الحكم سلفًا، فأنَّى له أن يصل إلى غير هذه النتيجة التي وضعها قبل أن يخوض غمار البحث العلمي؟

هذا، وقد حذَّر من ذلك علماءُ البحث، يقول الأستاذ/ فريد الأنصاري في كتابه (أبجديات البحث في العلوم الشرعية):

(ولابد للدارس مِن أن يحذر من أمرين خطيرين في دراسته: أولهما: التأثر بما قيل عن الموضوع كليًّا أو جزئيًّا؛ أي: عليه أن يخلي الذهن من كل الأحكام التي صدرت في حق إشكاله وقضاياه الداخلية، وهذا لا يعني إلغاء المعارف السابقة، كلَّا؛ وإنما يقبلها على أساس النقد والمراجعة...

 

ثانيهما: الارتباط العاطفي بالموضوع: خاصة إذا كان موضوع الإشكال (أي: البحث) شخصيةً ما أو مذهبًا ما؛ فربما يُعجب الدارس بتلك الشخصية أو المذهب، أثناء جمع المادة والقراءة عن الموضوع، فيَصِل به الإعجاب إلى درجة الانبهار، فيؤثِّر ذلك على الدراسة! كأن لا يقبل الدارس أي طعن في الشخصية أو المذهب المدروس، ويحاول الدفاع عنه حتى ولو أعجزه الدليل، ويؤول له حتى وإن لم يَسَعْه التأويل!

 

ولذلك لا بد للباحث من أن يجعل الحقَّ نصب عينيه، ومهما يُعجب بشخص أو برأي، فلا يكن مدعاةً للخروج عما تقتضيه البراهين من الحق والعدل)؛ المرجع المذكور: ص144 وما بعدها.

 

ومما سبق تجد أن هذه السَّوءة المنهجية لازمَت كثيرًا من الباحثين، لا سيما مَن يحملون أفكارًا واتجاهات معينة، ويُقبلون على البحث لإثبات ما يعتقدون، وقد أخذوا على عاتقهم الدفاعَ عنها بحق أو بباطل، وإن لم يُسعِفهم الدليل، ويلوون عنق النصوص وإن لم تحتمل التأويل، فضلًا عمن تقوم بتوفيرهم جماعة معينة أو حزب ليحملوا القضية، ويدافعوا عنها.

وهؤلاء يعتقدون ثم يستدلون، وليس العكس يستدلون ثم يعتقدون.

 

وأرى من خلال قراءاتي أن مظاهر ذلك واضحة، ومن هذه المظاهر:

أ‌- وضع الحكم عنوانًا للكتاب.

ب‌- الوصول إلى النتيجة في مقدِّمة البحث لا في نهايته، فهو يتحكم في القارئ، ولا يدع الأدلة تقوده إلى الحقيقة.

ت‌- عدم عرض الرأي المخالف - وإن كان مرجوحًا - وأدلته بأمانة.

ث‌- المصادرة على الرأي الآخر بالطعن والغمز، وربما السب والعبارات الفضفاضة، التي ليس مجالها بحثًا علميًّا نزيهًا.

ج‌- عدم تحرير محل النزاع وجمع الأدلة والترجيح بينها دون شطط.

ح‌- غض الطرف عن نقد ما يحتاج نقده نقدًا ذاتيًّا بنَّاءً.

خ‌- التعصب الشديد، وعدم الإنصاف مع المخالف فكرًا ورأيًا، والعجيب أنك تجده يدعو إلى عدم فرضِ رأي واحد، وللجميع أن يأخذ من أي المذاهب شاء، ثم تراه ينكر أشدَّ الإنكار على صاحب مذهب معتبر من الأئمة الأربعة؛ كالإمام أحمد بن حنبل مثلًا؛ لأنه لا يُوافقه في صوفيَّته، وتراه يطالب بالموضوعية مع العلمانيين والليبراليين، ولا تكاد تجدها مع إخوته في الدعوة.

 

2 - مِن الأزمات التي تواجه البحث العلمي عدم الأمانة في النقل وعزو كل قول إلى قائله (أو ما يسمى بالسرقة الأدبية)، ومن المؤسف أن أرى ذلك لأناس عمداء كليات شرعية، فقد اطلعت على رسالة دكتوراه لعميد سابق في كلية شرعية، وقد نقل كلامًا لابن الجوزي دون أن يعزوه إليه، وثانٍ نقل كلامًا كثيرًا لابن القيم خلطه بكلامه دون أن يبين أو ينسب، وغيرهم كثير.

 

لكنني ذكرت هذين المثالين؛ لأن أمثال هؤلاء هم الذين يأمرون ويطالبون بأمانة النقل، ويفضحون الباحث على رؤوس الأشهاد إذا ما ظفروا بنقل لم يعزُه إلى قائله.

 

3- المؤسسات الكسبية: التي تكتب الأبحاث بغيةَ الكسب، لا نشر العلم، فتأتي (بالتَّيس المستعار) لا يحمل همًّا ولا قضية ولا فكرًا، غير أنه يستطيع أن يقوم بمهارة فائقة بالقص واللصق (تجميع جيد)، وأنى لمثل هذا الذي لا ينظر أبعَدَ من شِراك نعله أن يتأمل مسألة علمية يحققها ويطيل النظر فيها، وكيف له أن يعارض أو ينتقد وهو أسير لقمة العيش؟!.

 

ولك أن تُقارن بين قول عكرمةَ رضي الله عنه في قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾ [النساء: 100]، قال عكرمة مولى ابن عباس: طلبتُ اسم هذا الرجل أربعَ عشرة سنة حتى وجدته.

وعلي بن المديني شيخ البخاري يقول: (ما استبانَتْ لي علة الحديث إلا بعد أربعين سنة)!

 

هؤلاء لا ينبغي أن توسم كتاباتهم بأنها بحث، ولكنهم (ورَّاقون) بائعو ورق؛ لذا تجد مِن السهل أن يُصدر كل أسبوع كتابًا؛ فهو لم يكد فيه ذهنه - ولا إخاله على حالته هذه يحتاج - وقد سمعت أحد المشايخ المشهورين وقد حصل على الدكتوراه الفخرية يقول: (أنا كتبت أكثر من ثلاثين كتابًا، أي كتاب أستطيع أن أقدمه أحصل به على الدكتوراه)، ونسي أن كل كتاباته (جمع وترتيب)، وليست إلا رصًّا للنصوص بعضها فوق بعض، وهذا ما لا يَعجِز عنه أحد، وهذا خلط غريب بين الكتابة الحرة التي يكتبها الإنسان من قِبَل نفسه والبحث العلمي المحكم الذي يخضع لوقت وإشراف وقوانين وغيره، وهذا لا يعني أن كل الرسائل العلمية على قدر كبير من الجدية والبحث.

 

وكما قيل: (العالِم ليس هو الذي يحمل في رأسه خزائن ومكتبات، ولكنه الذي يعرف كيف يُوظِّف ما في رأسه وما في الخزائن والمكتبات من أجل إضافة بعض الإضافات).

ولقد أسعدني ما نقله الأستاذ/ محمد حامد الأحمري في كتابه (مذكرات قارئ) عن (مونتسكيو) في الرسائل الفارسية يقول: (ليس من المؤلفين قط أَوْلَى بازدرائي من الجمَّاعين، الذين يأخذون مِن هنا وهناك أجزاءً من كتب غيرهم، ويضمنونها كتبهم كقِطَع مِن العشب في روضة، وليسوا في عملهم هذا بأفضل من عمَّال المطبعة يرتبون الحروف ويصفُّونها، ثم يطبعون كتابًا لم يبذلوا فيه إلا عملًا يدويًّا؛ ولهذا أريد ألا يحترم الناس إلا الكتبَ الأصيلة المبتكرة...؛ نقلًا عن: مذكرات قارئ - للأحمري ص16).

 

ومثل هؤلاء يقال لهم ما قال القائل:

فَدَعْ عَنْكَ الكِتَابَةَ لَسْتَ مِنْهَا *** وَلَوْ سَوَّدْتَ وَجْهَكَ بِالمِدَادِ



رابط الموضوع: https://www.alukah.net/culture/0/112056/#ixzz6qdd0GMl8

جميع الحقوق محفوظة © 2013 الحصون الفكرية